عربة القط الزمنية ومسألة الطفل واللغة العربية

عربة القط الزمنية  ومسألة الطفل واللغة العربية

العدد 949 صدر بتاريخ 3نوفمبر2025

للأديب المصرى هانى عبدالرحمن القط مسرحية للأطفال حصدت واحدة من أهم الجوائز الأدبية فى مجال مسرح الطفل عن استحقاق وجدارة، لأنها مزيج من كل شىء من حكايات الجدات وبراءة الأطفال فيها الخوف والشجاعة وفيها من الحزن بقدر ما بها من الفرح وبها من التراث والماضى بقدر ما فيها من الحديث والمعاصر كما تنطوى على ما يعجب الصغار ويرضى الكبار ولأنها موجهة أصلًا للأطفال فهى تنطوى على قيم وأخلاق ومواعظ من تلك التى نسعى إليها جميعًا بكل طاقتنا لكى نزرعها فى أذهان أطفالنا حتى ولو كنا نحن أنفسنا محرومين منها والمؤلف هنا يمثل الطفولة بكل براءتها ومراجعها وينطلق من فصل المدرسة حتى إنه قد يصل إلى القارئ أنه أمام نص مدرسى تقليدى حتى إذا تحلى بالصبر والإصرار على القراءة يكتشف أنه أمام وجبة مسرحية شهية رغم أنها تبدأ وتنتهى بالمدرسة فى إشارة من الكاتب إلى ما تنطوى عليه هذه المؤسسات التربوية والتعليمية التقليدية من سحر وأهمية وأن لها دورًا أساسيًا فى بناء الشخصية الإنسانية ويوجه الكاتب بذكاء شديد إلى أهمية المكتبة فى مواجهة الجهل بالعلم ومواجهة السحر بالمنطق بالإضافة إلى كمية لا نهائية من المفارقات التيرينطوى عليها هذا النص المسرحى البديع الذى يقسم فيه «القط» مسرح الأحداث إلى مستويين الأول منهما يشغله «عبدالرحمن» ذلك الطفل البطل النموذح الذى يتحيز إلى ما يتحلى به من قيم المسرحية رغم أنه طفل عادى مثل كل الاطفال ينتمى إلى أسرة عادية ولكنه يتميز عن زويه بالمكان الذى شاهده فيه أول مرة وهو مكتبة المدرسة بين الكتب المرصوصة على الأرفف الخشبية ويبدأ النص بأن يعطيه المعلم قصة يقرأها مؤكدًا له أنها قصة ممتعة للغاية واعدا إياه بأنه سوف يتعلم منها الكثير ومن هذه القصة التى يشرع «عبدالرحمن» فورا فى قراءتها قائلًا: 
«كان ياما كان فى سالف العصر والأوان بلد تدعى (مملكة العجائب القديمة) معظم أهلها مسالمون وملكها ملك طيب» وهنا فى هذا المنعطف السردى ننتقل إلى المستوى الثانى من المسرحية حيث ملك المملكة الطيبة التى تحتضن الحدث الأهم فى هذه المسرحية وهو خيانة «الدروسين» للملك والدروسين هنا هو المعادل القديم للعلم والقراءة بالمستوى الأول فهو يمارس السحر ليبهر به أهل المملكة الطيبين ويبهر الملك بألعابه السحرية فيرجوا الوزير الملك أن يستعين بالدروسين لتعليم الأمير «نور الدين» وتعجب الفكرة الملك فيوافق عليها وهكذا يتمكن الدروسيون مما يطمح إذ يستخدم السحر فى تحويل الأسد إلى عصفور ويضعه فى عربة الزمان ليغادر المملكة والمرحلة ويفرغ هو للملك ليقضى على ملكه ويصير حاكمًا للمملكة ولا ينسى الكاتب أن يجعل تلك العاقبة نصيب الأمير لأنه كذب على والده ولم يقل له أن الدروسين حرضه على القيام برحلة سحرية جذابة وكانت هذه الكذبة سبب السقوط والمشاكل الكثيرة التى مر بها الأمير والتى لم ينقذه منها سوى «عبد الرحمن» وما تمتع به من علم وصدق حتى فى الظروف التى قد يكون الكذب فيها مقبولًا ومتاحًا لأجل التخفيف عن الملك الحزين لفقد ولده عندما يصل عبدالرحمن بعربة الزمن إلى المملكة ويمسك به رئيس الحرس ويقوده إلى الملك ظنًا منه أنه الأمير ولكنه يقرر أن يقول الحق ويكمل المسيرة حتى ينجح فى إعادة الأمير إلى والده الذى يعلم بخيانة الدروسين ويجبره على إعادة ولده الذى حوله إلى عصفور إلى حياته البشرية وتنتهى المسرحية بأن يقرر الملك القضاء على الجهل بمنع ممارسة السحر وفرض العلم والتعليم على كافة أطفال المملكة وما من تحفظ على مجريات هذا النص إلا فى تجاوز بعض المواقف منها عدم عودة الأمير مع عبد الرحمن إلى المملكة من أول مرة بدلا من استهلاك مزيد من الوقت والجهد بغير داعى أما ما خلا ذلك فالنص مليئ بخفة الظل والمواقف الطريفة والمفارقات الهامة التى تنتصر للأفكار الطيبة التى ينطوى عليها النص المصاغ بلغة عربية جميلة وبسيطة يسهل أن يكتشفها الأطفال وأنه يحقق متعة بصرية فى مزجه المستمر بين التاريخى بما له من أصالة وبين الحاضر والآتى بما له من سحر فى اتصاله بالواقع كى يحملنا على المقارنة بين الأمس واليوم مما يحملنا على تأمل المستقبل الذى يفصلنا عنه نقرة زر بعجلة الزمن التى تنقلنا إلى الغد القريب والبعيد فى لمح البصر الأمر الذى يحفز خيال القارئ أو المشاهد الذى يدرك أنه على بعد خطوة واحدة منه ومن الشخصيات الهامة التى ظهرت فى المشهد المعاصر من المسرحية مثل شخصية الجدة بكل ما لها من مكانة فى قلب الحفيد وبكل مالها من تقدير واحترام ودور فى تربيته وبينما تظهر الجدة هنا والآن تختفى الملكة فى البعد الآخر للمسرحية لكى يتكبد الملك وحده أحزان فقد الابن التى كان من الأفضل أن يتقاسمها مع الملكة وهى لحظات بسيطة بالنص أظن أنها لن تفوت المخرج الذى بدوره سوف يعيد صياغة العرض الذى يستحق أن يتحقق لكى يتمتع أطفال مصر والعرب بمثل هذه الكتابة جيدة الصنع والذى يرجع غيابه عن منصة العرض رغم نشره وحصوله على الجوائز إلى مسألة اللهجة التى تعد مسألة خطيرة فى عروض مسرحيات الأطفال فى مصر لأنها تصطدم مباشرة بلغتنا العربية التى رغم كونها أداة توصيل بارعة نتوسل بها لأجل توصيل ما نبتغى من رؤى وأفكار إلى المتلقى كبيرًا كان أو صغيرًا إلا أن هذه اللغة الفصحى لها فى مسرحيات الأطفال فى مصر وضع خاص بالرغم من القطع بأهميتها يهجرها صناع العروض المسرحية للأطفال فى مصر ويفضلون اللهجة العامية خوفا من أن ينصرف عنهم الرواد ممارسين كانوا أو مشاهدين، وقد ترتب على ذلك مسألة مهمة تستوجب المناقشة والتسجيل بحثًا عن الأفضل وهى هل نتحيز إلى اللغة العربية الفصحى بصرف النظر عن مسألة تهرب ونفور الأطفال أم أننا علينا أن نخرج عن هذا الشكل التقليدى لكى يحتفظ المسرح بوصفة أداة للترفيه والتربية والتعليم والتوعية والتسلية ولكن بطريقة غير تقليدية والفصحى قد لا يتوفر معها ذلك حيث تحيلنا مباشرة إلى الوضع التقليدى والتعليمى وربما تصرف الطفل وتبعده عن التركيز فى التلقى، والحقيقة أن الرد المباشر من الأطفال أصحاب الشأن فى مصر حينما يسألون عما إذا كانوا يفضلون اللهجة المحلية أى لغة الحياة اليومية أو ما نسميه اللهجة العامية أم اللغة العربية الفصحى ينتصرون دائمًا لعروض الطفل المصاغة بالعامية المصرية منذ أوبريت «الليلة الكبيرة» الذى قدمه قبل أكثر من نصف قرن مسرح العرائس بالقاهرة ، وما زال يعرض إلى الآن للأطفال بسبب أغانية التى كتبها «صلاح جاهين» باللهجة العامية ونادرة هى النصوص المسرحية التى عرضت بالفعل باللغة العربية على نفس المستوى.
ومن المسائل الأخرى المتعلقة بنصوص مسرحيات الأطفال أنه إذا حدث وبادر أحد المهتمين بدافع من رغبة صادقة فى تحريك المياه الراكدة بمسرح الطفل العربى بأن يترجم إلى العربية الفصحى كما فعل أستاذ الأدب المسرحى المصرى محمد شيحة عندما ترجم عن الألمانية عشرة مسرحيات للأطفال لم تجد من يهتم بتنفيذها أو قراءتها إلا بعض الدارسين لمسرح الطفل والباحثين، وكذلك الحال عندما ترجم الأكاديمى المسرحى السورى جمال عجاج ترجمة روائع المسرح الروسى للأطفال ولم يحتف بترجمته لها أحد، ولذلك لكى يعطى مبدع الطفل لنفسه مساحة أوسع وقاعدة أعرض من الجماهير فى مصر تحديدا يجب أن تكون الترجمة بالعامية إضافة إلى اختيار موضوعات تناسب البيئة والتقاليد المحلية، والطفل كمتلقى هنا ليس مثل الكبار يريد أن يرى ليعرف ماذا عن الآخر، وإنما يفضل الطفل أن يرى ما يعبر عنه مباشرة من دون لف أو دوران أو أشياء يترتب عليها أشياء أخرى أو تتعلق بشيء غير واضح وإنما يحتاج الطفل إلى المباشرة فى مسرحه ولا تصلح معه الأمور المركبة يعنى التحولات والإشارات غير مطلوبة فى مسرح الطفل الذى يجب أن يتم فيه الفصل التام بين ما هو طيب وبين الشرير.
 يحول ذلك دون وصول نصوص مسرحية جيدة الصنع إلى مسرح الطفل وهى تحصد أرفع جوائز مسابقات التأليف لمسرح الطفل والتى فى العادة لا أحد يعلم بأمرها غير أصحابها ومانحى الجوائز ونحن النقاد والباحثين والدراسين فى المجال ومن المحزن بالطبع عدم وصول هذه الدرر المسرحية إلى أصحابها فالمسرحية تكتب أساسًا لتعرض وقراءة المسرح تحتاج إلى تدريب وخبرة ومهارة، وهى صعبة أحيانًا على الكبار فما بالنا بالأطفال لذلك يندر أن تجد طفلا يقرأ نصا مسرحيا إلا إذا كان أحب المسرح وعرفه من قبل ويقرأ الطفل المسرحية التى يشارك فيها عشرات المرات حتى يحفظ دوره وهذا القدر من القراءة يدعم ملكات الوعى والثقافة لديه، وخلاف لاعبى المسرح نادرا ما نلتقى بطفل قارئ للمسرح أضف إلى ذلك حقيقة هامة هى أن النصوص التى تخص الجوائز والتى تعجب القراء تكون دائما نصوصا جادة وأحيانًا «ميلودراما» يعنى تراجيديا مسرفة فى المأساة ذات موضوع إنسانى يبكى الناقد والمحكم من فرط تفاعله معه وإعجابه بمعالجته ولكن عند التنفيذ وبعد أن يحصل النص على أرفع الجوائز وأعلى التقديرات لا يجد طريقه إلى خشبة المسرح التى كتب خصيصًا لأجلها وتكبد المؤلف مشقة كبيرة لكى يجعل أفكاره قابلة للتنفيذ والعرض وإلا كان استثمر وقته بصورة أفضل فى كتابة قصة قصيرة أو طويلة أو قصيدة لا تحتاج إلى كل ذلك الجهد والوقت الذى يبذل فى كتابه المسرحية.


محمود كحيلة