علاقة الجمهور بالعرض المسرحى.. من العزلة إلى التفاعل والمشاركة

علاقة الجمهور بالعرض المسرحى..  من العزلة إلى التفاعل والمشاركة

العدد 935 صدر بتاريخ 28يوليو2025

عندما حضرت عرض «حكايات الشتا» لفت انتباهى تصرف غير مألوف قام به أبطال ومخرج العمل بعد نهاية العرض. فقد طلبوا من الجمهور الانضمام إليهم على خشبة المسرح لالتقاط صورة جماعية بل وصل الأمر إلى تسجيل مقطع فيديو مع أحد المتفرجين بطريقة عفوية وودودة. لم يكن هذا مجرد تصرف عابر أو مجاملة للجمهور بل كان امتدادًا لروح العرض نفسه وروح المسرح الحى الذى لا يكتمل دون جمهوره. لقد شعرت لأول مرة منذ زمن بأننى لست مجرد متفرج صامت بل جزء من العمل ومن الفكرة ومن الحالة ومن التجربة الإنسانية المشتركة.
هذا الحدث البسيط والعفوى فى ظاهره دفعنى للتفكير بعمق فى طبيعة العلاقة بين الجمهور والعرض المسرحى. هل الجمهور مجرد كائن يجلس فى الظل ويتلقى أم يمكن أن يكون طرفًا فاعلًا فى العرض؟
ومن هنا جاءت فكرة كتابة هذا المقال لاستكشاف كيف تعاملت المدارس المسرحية المختلفة مع هذه العلاقة ولطرح رأيى فى الاتجاهات المسرحية التى تسعى إلى كسر الحواجز وتعزيز الحضور والتفاعل بين الممثلين والجمهور.
تعد العلاقة بين الجمهور والعرض المسرحى من أكثر المحاور الجوهرية التى شغلت المسرحيين والمخرجين والباحثين منذ نشأة المسرح وحتى يومنا هذا. فليست خشبة المسرح مجرد منصة يقدم عليها الممثلون أداءهم بل هى مساحة ديناميكية تتغير تبعا لطبيعة النص ورؤية المخرج وشكل العلاقة المفترضة بين المتفرج والممثل. وفى قلب هذا النقاش يتمركز سؤال محوري: هل ينبغى أن يكون الجمهور منفصلًا عن المسرح أم مندمجًا فيه؟ هذا السؤال أسس لمدارس واتجاهات مسرحية متعددة وتفرعت عنه تجارب مسرحية غيرت مفهوم العرض المسرحى برمته.
فى المسرح الكلاسيكى خصوصًا فى المسرح الإليزابيثى والفرنسى الكلاسيكى والمسرح الأرسطى كان الجمهور يجلس فى مقاعد مخصصة ويفصلهم عن العرض حاجز وهمى يعرف بالجدار الرابع. هذا الحاجز يجعل من الجمهور متلقيًا صامتًا غير مرئى من قبل الممثلين. المسرحية تعرض أمامه دون أن يكون له أى تأثير فى سير الأحداث أو فى الأداء. وقد بلغ هذا النموذج ذروته فى القرن التاسع عشر مع المسرح الطبيعى Naturalism والواقعى Realism؛ حيث سعت هذه المدارس إلى خلق وهم الواقع. فالمسرحية تشبه نافذة على الواقع والجمهور كأنما يتلصص على حياة الآخرين دون أن يكون جزءًا منها. هذا النموذج وإن منح المتفرج راحة فى التلقى فإنه وضعه فى موضع سلبى وساكن. الجمهور يشاهد فقط دون أن يؤثر أو يتأثر بشكل مباشر مما قد يؤدى إلى ضعف التأثير المسرحى وتقليص طاقة التغيير.
بدأت التحولات الحقيقية فى القرن العشرين حين ظهرت حركات نقدية ومسرحية تمردت على فكرة الجدار الرابع. من بين أبرز من دعا إلى كسر هذا الحاجز كان المخرج الروسى ايفجينى فاختانجوف وكذلك برتولت بريخت فى المسرح الملحمى وأنطونين آرتو فى مسرح القسوة. فقد اعتمد بريخت على كسر التلقى العاطفى السلبى للجمهور وسعى إلى جعل المتفرج واعيًا ناقدًا مفكرًا. ولذلك استخدم تغريب الشخصية Verfremdungseffekt، وهى تقنية تؤكد أن ما يعرض ليس واقعًا بل تمثيلًا لواقع يدعو الجمهور للتفكير فيه وتغييره. ففى عروض بريخت قد يخاطب الممثل الجمهور مباشرة أو تعرض مشاهد بأغان تعلق على الأحداث ويضاء المسرح بالكامل دون إخفاء الآليات المسرحية. وهذا الشكل من التفاعل منح الجمهور دورًا فكريًا، لكنه لم يجعله مشاركًا فعليًا فى الحدث. فبريخت لم يرد للجمهور أن يندمج بل أن يتنبه مما يجعله نصف متفاعل.
أما أنطونين آرتو فقد ذهب إلى مدى أبعد بكثير. ففى مسرح القسوة دعا إلى إزالة المسافة بين الجمهور والممثل بل حتى إزالة المقاعد ليدخل الجمهور فى قلب العرض. الأداء المسرحى عند آرتو يعتمد على الإشارات الجسدية والحركات والأصوات والإضاءة المزعزعة والفضاء المسرحى غير الثابت. ففى المسرحه قد يفاجأ الجمهور بالممثلين يمرون من حولهم أو بينهم أو حتى قد يطلب منهم التحرك أو التفاعل. مسرح آرتو شكل ثورة فى جعل العرض تجربة حسية كاملة. لكنه أيضًا كان صادمًا وأحيانًا مزعجًا ما يجعل تلقيه يتطلب استعدادًا خاصًا من الجمهور.
فى العقود الأخيرة تطور مفهوم العلاقة مع الجمهور إلى مستويات جديدة من الإشراك والذوبان فى العرض نذكر منها المسرح التفاعلى Interactive Theatre وهو مسرح يقوم على التفاعل اللحظى بين الممثل والجمهور. وقد يطلب من المشاهد اتخاذ قرارات تؤثر على مجريات العرض أو المشاركة فى الحوارات أو حتى أداء أدوار محددة. ولعل المثال المهم على هذا الاتجاه هو مسرح المضطهدين الذى أسسه البرازيلى أوجوستو بوال. ففى عروض هذا المسرح يطلب من الجمهور الذى يسمى المتفرجون-الممثلون أن يصعد إلى المسرح ويجسد اقتراحات لحل المشكلات المعروضة ما يجعل العرض أداة لتحفيز الوعى الاجتماعى والسياسى.
يأتى بعد ذلك المسرح البيئى Environmental Theatre الذى أسسه ريتشارد شيشنر فى أمريكا ويقوم على فكرة أن كل مكان يصلح للعرض وأن المسرح ليس له مكان محدد. وفى هذا الشكل يتحرك الجمهور داخل بيئة العرض وقد يتبع الممثلين من غرفة إلى أخرى أو يتنقل حسب المشاهد. ومن المؤكد أن تجربة المسرح البيئى والتفاعلى تفتح الباب أمام تدمير المسافة بين العارض والمشاهد، وتجعل الجمهور عنصرا دراميا فاعلا وتعزز الاندماج بل أحيانا الذوبان التام فى العرض.
وفى عروض معاصرة عدة يتم التخلى عن فكرة الجلوس ويطلب من الجمهور الوقوف أو التجوال خلال العرض. هذا يمنحهم حرية فى اختيار الزاوية التى يشاهدون منها العرض ويزيد من الإحساس بالتفاعل الحسى والبدنى. مثال على ذلك عرض مثل Sleep No More فى نيويورك - وهو إعادة تخييل لمسرحية ماكبث إذ يدعو الجمهور إلى ارتداء أقنعة والتجوال بحرية فى مبنى متعدد الطوابق حيث تدور الأحداث فى غرف وسراديب مختلفة ويمكن للمتفرج أن يختار من يتبعه أو أين يقف.
لا يمكن القول إن هناك نموذجًا واحدًا أفضل من غيره فى المطلق لكن من وجهة نظر فنية وفكرية معاصرة فإن المسرح الذى يكسر الحواجز ويدعو الجمهور للتفاعل - جسديًا أو فكريًا - ينسجم أكثر مع مفاهيم الفن الحديثة التى لا ترى فى المتلقى كائنا سلبيا بل شريكا فى العملية الإبداعية. إن العروض التى تفصل الجمهور تمامًا عن الممثلين وتضعهم فى مقاعد ثابتة كأنهم يشاهدون شاشة قد تصلح فى بعض السياقات مثل المسرح الكلاسيكى أو عروض النصوص الأدبية لكنها لم تعد تعبر عن نبض العصر. وفى زمن التفاعلية والانغماس والسوشيال ميديا لم يعد المتلقى يريد أن يكون مجرد مشاهد بل مشارك. المسرح الذى يعى هذه الحاجة - سواء من خلال التفاعل الحوارى أم الحركة أم الإشراك الفعلى - هو الأقرب لروح المسرح الحى.
إذن المسرح الذى يشرك الجمهور - جسديا أو عقليا أو عاطفيا - هو الأكثر حيوية والأكثر تعبيرًا عن جوهر المسرح كفن حى يتنفس ويتطور.


محمود كامل