«كازينو».. القبو به سم قاتل

«كازينو»..   القبو به سم قاتل

العدد 902 صدر بتاريخ 9ديسمبر2024

السيد والخادم، الطبقة العليا والطبقة العاملة، الحاكم والمحكوم، الأغنياء والفقراء....، تختلف المسميات ويظل المعنى واحد، ويبقى الصراع الطبقي قضية أبدية منذ قديم الأزل، فالطبقة العليا تنظر للفقراء بنظرة دونية، مما يشكل حقد ونظرة عدوانية لدى طبقة الفقراء المضطرين لخدمة هؤلاء السادة وتنفيذ أوامرهم، فماذا يحدث حين يتمرد وينقلب الخادم على السيد؟.، ذلك ما تم طرحه في «كازينو» الذي عُرض على قاعة (يوسف إدريس) بمسرح السلام، كتابة (أيمن النمر)، رؤية وإخراج (عمرو حسان).
 اثناء انتظارنا بدء العرض في ساحة المسرح نجد سايس السنيورة يلعب ويتفاعل مع الحضور بألعابه السحرية وخفة اليد، وبعد الانتهاء من فقرته يتم استدعاء الجمهور للقاعة، لنجد خارج القاعة إضاءة مبهجة وبانوهات لورق الكوتشينة، وأعلى قاعة المسرح يافتة “كازينو”.
 هكذا صنع المخرج حالة الدخول للكازينو ليجعل المتلقي يتعايش معها وكأنه داخل كازينو بالفعل، وليس مجرد عرض مسرحي أتى لمشاهدته، وبطبيعة قاعة (يوسف إدريس) -فنحن أمام مسرح غرفة- استغل المخرج مساحته ليجعل المتلقي يتوحد مع حالة الكازينو ولا يشعر بغرابة المكان، ليجد نفسه محاطا من خلال جدران القاعة التي تأخذ اشكال (الكوتشينة)، والقرب الشديد بين المتلقي ومنطقة التمثيل، ليتماهى مع الأحداث والشخصيات وجعله جزء من العرض.
 تدور أحداث العرض في كازينو يتجمع فيه مجموعة من الأصدقاء الأثرياء، ومجموعة من عاملي الكازينو، ومع تطور الأحداث تظهر كل شخصية على حقيقتها.
 يقوم العرض بفضح طبقة الأثرياء المتخذة من المثل العليا قناعا يخفون وراءه فسادهم وحالة التناقض التي يعيشونها.. المتمثلة في...
 (إيمان هانم) سيدة المجتمع التي تنادي بحقوق المرأة، وفي حقيقتها مقامرة ومتعددة العلاقات، وجدت من هذا الطريق الشهرة والثراء حيث يتهافت عليها البرامج التلفزيونية  والجرائد.، و(دكتور تامر) الطبيب البشري الفاقد للشرف والأمانة فيتاجر بأعضاء ومعاناة المرضى، والباحث بأي وسيلة عن جمع الأموال.
 و(زكي باشا) العجوز المتصابي الثري، يحاول أن يعيش شبابه على الرغم من شيخوخته.، أما عن (حسام) ابن صاحب مجموعة فنادق سبع نجوم، علاقاته النسائية كثيرة، مما يسبب له مشاكل كثيرة ، لذلك يحمل مسدسا لا يفارقه لأنه يشعر بالخطر دائما.
 ومن خلال تجمع هذه الشخصيات في الكازينو الذي يمتد لثلاثة أدوار تحت الأرض ليمثل قبوا يخفوا وراءه بشاعتهم وزيفهم بعيدا عن أعين الناس، ويكون المكان الذي يظهرون فيه على حقيقتهم.
 فنتعرف على (البوص) الذي يدير الكازينو يحمل عدوانيا لطبقة الأثرياء، (وياسمين) ضحية الظروف المجتمعية التي لا تجد مكانا غير الكازينو ليوفر احتياجاتها هي وأسرتها، وكذلك (ميمي) ضحية الظروف ايضا التي تحاول أن توقع أحد الأثرياء في شباكها من أجل أن ينتشلها من فقرها، أما (باسم) خطيب ياسمين الذي يصطدم حين يراها تعمل في الكازينو.
 ومن خلال هذا التجمع وانقطاع التواصل بسبب الزلزال الذي أوقع بسلم الخروج إلى أعلى، ولا يوجد طعام ولا ماء، يتم تعرية تلك الطبقة العليا ووضعها أمام ذاتها الوحشية ونظرتها للحياة ولطبقة المهمشين، فحين يخبرهم البوص أنه يخبئ زجاجتين من الماء، فزجاجة الماء الآن تساوي حياة، فمن يحتاجها يشتريها، ليقترح حسام المقامرة عليها، وعلى الرغم أن المال ليس له أي قيمة في مثل هذا الظرف فجميهم سيموتون حتما، فيرى بعضهم أن مبلغ المقامرة على الزجاجة كبير، ليبرز مدى تعلق هذه الطبقة بالمال حتى لو كان على حساب حياتهم.
 وعندما يوافقون على اللعب ومن يفوز سيأخذ الزجاجة، فماذا عن المهمشين؟، لتبرز لنا مناظرة حسام وباسم نظرة كلا منهما للآخر؛ يرى حسام أنه لو احد المهمشين قد مات لا احد سيذكره، أما بالنسبة لطبقة حسام فالموضوع مختلف، فكل شخص من طبقته يفتح آلاف البيوت من طبقة باسم، فماذا يفعل حسام عندما يجد هذه الآلاف من الناس لا تحبه؟ وهذا الفارق الجوهري بين الطبقتين، انك تموت مع شخص تحبه بألف حياة من حياة الأثرياء التي لا تهمهم سوى مصالحهم فقط.
 يفوز حسام بالزجاجة، لتتجلى مدى وحشيته وغروره وساديته فيتلذذ بعذاب الآخرين وهو يشاهد معاناتهم، فبكر المسن مريض السكر والضغط  يحتاج للماء، فلا يثير ذلك عاطفته  ليمتل أقصى درجة من تدني الإنسان التي تصل لحد الاشمئزاز، ولا يتوقف الأمر عن ذلك فحسب بل يصبح الإنسان أيضا سلعة، فالطبقة الدنيا لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي وهم يشاهدون بكر يموت، فيطلب باسم انا يقامر حسام على الزجاجة ولأن باسم لا يملك شيئا فيطلب حسام ياسمين لتكون هي المقابل، الجدير بالذكر أن حسام يقع في غرام ياسمين لكنها لا تتجاوب معه مما يجعله يصر عليها عكس شخصية ميمي فهي متاحة في اي وقت، وبطبيعة شخصيته المغرورة والمتغطرسة يأخذ ما يريد حتى لو كان ما يريده لا يريده.
 لنجد الشرف والإيثار متمثل في طبقة المهمشين فباسم وياسمين وافقوا على هذه اللعبة وأن يضحوا بأنفسهم من أجل إنقاذ بكر.، ومع تقدم الأحداث نكتشف مدى فساد هذه الطبقة، والتحول في الحبكة  (plot twist)   ليصطدم الجمهور بالحقيقة.
 دعم ديكور (محمد عبدالحميد) الأجواء الدرامية، فبجانب الجدران التي تحاوط الجمهور على شكل ورق الكوتشينة، ففي المنتصف وأمام المتلقي مباشرة طاولة المقامرة، في العمق البار خلفيته زجاجية، لتضع الشخصيات أمام ذاتها الحقيقية وأن كل شيء مكشوف داخل الكازينو، على يسار البار باب الحمام ، وعلى اليمن باب الخروج والدخول.، كما لعبت إضاءة (عز حلمي) دورا هاما في تهيئة المتلقي لأجواء العرض بألوانها المبهجة، وكانت تتداخل بين الأحمر والأزرق، لتبرز حالة الصراع بين الشخصيات وما تحويه الذات بداخلها، كما وظفت مع المؤثرات الصوتية بالتعرف على الشخصيات، وبالوصول للنهاية نجد إضاءة طبيعية دلالة على أن كل شيء قد كشف، بجانب المادة الفلمية التي جاءت بشكل ذكي لتوضح للمتلقي الحقيقة والعملية التي تمت.
 موسيقي (حازم الكفراوي) التي عملت حالة من التشويق والتوتر والترقب لدى المتلقي، كما عبرت عن الحالات الدرامية المختلفة، بالإضافة إلي ملابس (مها عبدالرحمن) التي عبرت عن وضع الشخصيات الاجتماعية وفصلت بين الطبقتين، وميزت بين كل شخصية والأخرى.
 أما عن الأداء التمثيلي فكان أكثر العناصر جذبا، فوفق(عمرو حسان) في توظيف الأدوار فكل ممثل في مكانه الصحيح، بداية من شخصية حسام (كريم الحسيني) الذي برع في تأدية دور الثري الفاسد المستغل المهووس بالجنس والمتغطرس يريد أن يجعل الجميع طوع أمره، بجانب إضفاءه جانب الكوميديا على الشخصية، فظهر لنا شخصية الشر الممزوجة بالكوميديا فتعلق المتلقي بها.، وكذلك شخصية زكي (محمود البيطار) ذلك المسن المتصابي التي نجح محمود في تأديتها بالإضافة لخفة ظله، كما أن مشهد موته الذي شعرنا معه بإحساس الشخصية، فعلى الرغم من كبر سنه لم يعمل حساب تلك اللحظة وأن كل ما يمتلكه من مال لن ينفعه في لحظة الموت.
 ونجح (شادي أسعد) في تجسيد شخصية الدكتور الفاسد تاجر الأعضاء الذي يستغل المرضى.، وأجادت (نوال سمير) في تقدم حالة التناقض للسيدة التي تنادي في العلن بحقوق المرأة وفي الخفاء مقامرة، وجعلتني نشعر معها بحالة الشخصية وخوفها من الموت.، و(مجدي البحيري) في دور البوص مدير الكازينو الذي يكن بداخله عداوة لتلك الطبقة، واضفى مجدي جانب من الكوميديا على العرض.
 (نسمة عادل) التي نجحت في تقديم دور الفتاة التي تعمل في وظيفة لا تتناسب مع أخلاقها لكن ظروفها اقوى منها فلا تجد فرصة غير الكازينو فشعرنا معها بمعاناتها.، و(نيجار محمد) التى تعتبر نقيض نسمة فهي فتاة لعوب وجريئة متاحة للجميع، ويعد مشهدها بعد موت بكر الذي أبرز موهبتها التمثيلية وجعلت المتلقي يتعاطف معها بسبب صدقها في التعبير عن المشهد.
 أما شخصية خطيب ياسمين الذي نجح (أحمد محسن) في تجسيد الشخص المحافظ الثوري العنيد الذي يقف أمام الأثرياء.، أما عن (محمد دياب) الذي قدم دور الساحر قبل بدء العرض، وبخفة ظله يقوم بتقديم الشخصيات في العرض بطريقة أشبه بالنبطشي.
 على الرغم من أن العرض قريب من مسرحية “سكة السلامة” للكاتب الراحل (سعد الدين وهبة)، التي تدور حول تعطل اتوبيس في الصحراء يحمل مجموعة من الشخصيات من مختلف الطبقات، فتبدء كل شخصية في الكشف عن حقيقتها وتناقضاتها.
 فنجح (عمرو حسان) في تقدم رؤيته الخاصة والمعاصرة من خلال هذا التجمع في الكازينو، ويترك النهاية مفتوحة، للتأكيد أن هذه القضية أبدية ولا نهاية لها، وكأن الكازينو سلاح المهمشين حين تمردوا على الأسياد، ليصبح الكازينو -الذي يمتد ثلاث طوابق تحت الأرض- قبوا به سم قاتل... لأفعال تلك الطبقة المستبدة.


محمد خالد